الاعتراف الأوروبي المتزايد بفلسطين يعمّق عزلة إسرائيل الدولية

وسط استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصاعد الانتقادات الدولية، يبرز تحول ملحوظ في مواقف الحلفاء الغربيين لإسرائيل، يتمثل في تزايد عدد الدول التي تعلن استعدادها للاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية. هذا التحرك، رغم أنه لا يُحدث تغييرًا ماديًا مباشرًا على الأرض، إلا أنه يُشير إلى تصدّع غير مسبوق في جبهة الدعم الغربي التقليدي لإسرائيل، ما يهدد بعزلها دبلوماسيًا على الساحة الدولية.

من الإجماع إلى التباعد: تحول سياسي غربي

لطالما رفضت الدول الغربية الكبرى الاعتراف بدولة فلسطينية، متمسكة بموقف مفاده أن “الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من تسوية نهائية متفاوض عليها”، لكن هذا الموقف الجماعي بدأ يتآكل سريعًا في الأسابيع الأخيرة.

يوم الثلاثاء، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن المملكة المتحدة ستنضم إلى فرنسا في الاعتراف بفلسطين بحلول سبتمبر، إذا لم تلتزم إسرائيل بسلسلة “خطوات جوهرية” لوقف الحرب والتقدم نحو حل سياسي. هذا الإعلان جاء بعد تعهّد فرنسي مماثل، تسعى باريس من خلاله لحشد أكبر عدد ممكن من الدول الأوروبية والغربية خلفها قبيل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في الخريف المقبل.

وفي مساء اليوم ذاته، انضمت 15 دولة – من بينها كندا وأستراليا – إلى بيان أممي يعبّر عن “تفكير إيجابي” في الاعتراف بفلسطين، أو استعدادٍ فعلي لذلك، في ما يُعدّ خطوة سياسية تهدف إلى إحياء حل الدولتين، وتوجيه رسالة واضحة لتل أبيب.

لحظة مفصلية لعلاقات إسرائيل مع حلفائها

يقول مجتبی رحمن، مدير شؤون أوروبا في مجموعة “أوراسيا” الاستشارية:
“إنها لحظة مهمة. قرار بريطانيا وفرنسا يُمكن أن يُطلق تأثيرًا متسلسلًا في عواصم أخرى كانت مترددة.”

وبينما ترفض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذا التوجه، قائلًا إن “الاعتراف يعني مكافأة حماس”، فإن أوروبا الغربية باتت تشهد تغيرًا في المزاج السياسي تجاه إسرائيل، مدفوعًا بتدهور الوضع الإنساني في غزة، والضغط الشعبي، وتململ سياسي داخل البرلمانات.

المقلق بالنسبة لإسرائيل هو أن الدول التي تقود هذا التحرك ليست دولًا هامشية، بل تشمل قوى نووية وذات عضوية دائمة في مجلس الأمن، ولها وزن سياسي واقتصادي كبير، مثل فرنسا وبريطانيا وكندا.

تداعيات الاعتراف الرمزي… ومعناه الحقيقي

صحيح أن الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطينية لا يعني فرض عقوبات اقتصادية أو تقليص الدعم العسكري لإسرائيل، إلا أنه يُمثّل تحوّلًا سياسيًا عميقًا في نظرة الغرب للنزاع. فالدول التي طالما دافعت عن إسرائيل في المحافل الدولية باتت الآن تستخدم أدواتها السياسية والدبلوماسية للضغط على تل أبيب، وليس لحمايتها فقط.

وقد فرضت بالفعل بعض الدول الأوروبية عقوبات على شخصيات إسرائيلية من اليمين المتطرف، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، على خلفية دعواتهما العلنية لإعادة الاستيطان في غزة وتوسيع ضم الضفة الغربية.

الولايات المتحدة: داعم رئيس… لكن لا يكفي

رغم هذا التحول الأوروبي، لا تزال إسرائيل تحتفظ بدعم أميركي ثابت، وهو ما يمنحها غطاءً سياسيًا كبيرًا، خصوصًا في مجلس الأمن. غير أن الاحتجاجات المتصاعدة داخل الجامعات الأميركية، والخلافات المتزايدة مع الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، بدأت تُضعف هذا التماسك.

ويرى مراقبون في تل أبيب أن غياب “جبهة غربية موحّدة” يُعد تطورًا خطيرًا، لأنه يجعل إسرائيل مكشوفة سياسيًا في مواجهة الضغط الدولي، وقد يُسهم في تسريع الاعترافات الفلسطينية في مؤسسات الأمم المتحدة، على غرار ما حدث مؤخرًا عندما تم ترقية فلسطين إلى “دولة مراقب دائم” في الجمعية العامة.

ألمانيا والنمسا… الحذر لا يزال قائمًا

على الطرف الآخر، لا تزال دول مثل ألمانيا والنمسا تتريّث في موقفها، مبررة ذلك بحساسيات تاريخية تتعلق بعلاقتها بإسرائيل. إلا أن حتى هذه الدول تواجه ضغوطًا شعبية متزايدة، ما يجعل موقفها قابلًا للتغير مع استمرار الحرب وتعاظم الكارثة الإنسانية في غزة.

ويُجري الاتحاد الأوروبي مناقشات جدية حول تجميد مشاركة الشركات الإسرائيلية في برنامج الأبحاث الأوروبي “هورايزون” البالغة ميزانيته 100 مليار يورو، رغم أن برلين تعرقل اتخاذ هذا القرار حتى الآن.

تل أبيب تقرأ الرسالة: العالم يتغير

في الداخل الإسرائيلي، يصف مسؤولون ودبلوماسيون هذا الحراك بأنه أخطر تطور دبلوماسي تواجهه إسرائيل منذ سنوات. وقد عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن رفضه الشديد لما وصفه بـ”الاعتراف الكارثي”، قائلاً: “دولة فلسطينية في هذه الظروف ستكون منصة لإبادة إسرائيل، لا للسلام.”

ويقول ريمي دانييل، الباحث في “معهد دراسات الأمن القومي” بتل أبيب: “التحركات الأوروبية تعكس تغيرًا جوهريًا في مكانة إسرائيل، ليس فقط لدى خصومها، بل بين أصدقائها التقليديين”.

وفيما تراهن تل أبيب على بقاء دعم واشنطن، فإن فقدان تأييد الدول الأوروبية الكبرى يجعل إسرائيل أكثر عزلة من أي وقت مضى منذ تأسيسها.

ويشير خبراء إلى أن الاعتراف الأوروبي المتزايد بفلسطين هو أداة ضغط سياسي وليست خطوة قانونية نهائية، لكنه يُوجّه رسالة واضحة بأن استمرار الوضع القائم لم يعد مقبولًا دوليًا.

وفي ظل مشهد دولي سريع التغيّر، يبدو أن إسرائيل تواجه تحديًا غير مسبوق: الحفاظ على دعم حلفائها التقليديين، بينما تغوص أعمق في عزلة سياسية قد تتعاظم إذا لم تُغيّر مسارها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.