في ظل عالم يشهد تحولات جيوسياسية كبيرة وتراجع التأييد الأمريكي للدفاع الأوروبي، تستعد المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لإبرام اتفاقية تعاون دفاعي وأمني عميق، تهدف إلى تعزيز قدراتهما المشتركة في مواجهة التهديدات المتزايدة، لا سيما من جانب روسيا، وكذلك تعويض الانسحاب الجزئي للولايات المتحدة من الدور العسكري في القارة الأوروبية.
تُعد هذه الاتفاقية التي سيتم الإعلان عنها خلال مؤتمر يُستضيفه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في لندن، نقطة تحول مهمة تعيد تعريف العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد سنوات من التوترات السياسية عقب خروج بريطانيا من الاتحاد. ويؤكد المسؤولون البريطانيون والأوروبيون أن ظروف النظام العالمي الجديد تتطلب تعزيز الدفاع الأوروبي الجماعي بما يشمل مشاركة المملكة المتحدة في المبادرات الأوروبية ذات الصلة.
قالت إستر ساباتينو، المحللة الدفاعية في معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية، إن هذه الخطوة ستشكل لحظة تاريخية بإعادة تشكيل التعاون بين الجانبين. أما أوليفيا أوسوليفان، مديرة برنامج المملكة المتحدة في معهد تشاتام هاوس، فأوضحت أن الاتفاق يعكس ضرورة التكيف مع عالم أقل اعتماداً على الدعم العسكري الأمريكي، حيث بات السؤال الأهم هو كيفية بناء قدرة دفاعية أوروبية وبريطانية مستقلة وفعالة.
الفوائد المتبادلة للاتفاقية
تأتي هذه الاتفاقية في وقت تواجه فيه أوروبا وبريطانيا تحديات أمنية غير مسبوقة. ويُتوقع أن يصف ستارمر هذه اللحظة بأنها “لحظة حاسمة” في مواجهة “أكبر تهديد أمني منذ جيل”. توفر المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي خبرات عسكرية عريقة وقوات مدربة، وإن كانت بأعداد أقل مقارنة بالولايات المتحدة، لكنها تملك قدرات نوعية مهمة في مجال الاستخبارات والمراقبة.
من جهة أخرى، ستحصل بريطانيا على فرصة للاستفادة من الأموال المخصصة للتطوير العسكري في الاتحاد الأوروبي، التي تبلغ مئات الملايين من اليورو ضمن برنامج العمل الأمني الأوروبي. يفتح هذا المجال لشركات دفاع بريطانية كبرى، مثل شركة بي إيه إي سيستمز، فرصة المنافسة على عقود ضخمة ضمن السوق الأوروبية، رغم القيود المفروضة على الدول غير الأعضاء.
كما ستتم مناقشة ملفات أخرى في اجتماعات القادة الأوروبيين، تشمل توسيع حقوق الصيد الأوروبية في المياه البريطانية، إضافة إلى اتفاقيات تتعلق بحرية تنقل الشباب بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
القدرات العسكرية البريطانية ودورها في أوروبا
يبقى السؤال الأبرز: ما الذي يمكن أن تقدمه بريطانيا لأوروبا في تعزيز الدفاع المشترك، خصوصاً في ظل تهديد عسكري روسي محتمل يعيد بناء قواته بعد انتهاء النزاع في أوكرانيا؟
يجيب إد أرنولد، خبير الأمن الأوروبي، بأن بريطانيا تتميز بقدراتها على فرض القوة خارج حدود أوروبا، لا سيما في مجالات الاستخبارات والمراقبة، وهي نقاط ضعف كبيرة لدى جيوش الاتحاد الأوروبي. ويتوقع أن تشمل الاتفاقية السماح لوكالة الأمن والإنترنت البريطانية “جي سي إتش كيو” بمشاركة معلومات استخباراتية مع شركائها الأوروبيين، مما يعزز القدرات الأمنية بشكل كبير.
وعلى الرغم من هذا التعاون، يظل دور بريطانيا في حلف شمال الأطلسي ثابتاً، حيث يبقى الحلف هو الركيزة الأساسية للدفاع الأوروبي.
تعزيز التصنيع العسكري وتوحيد المعدات
يركز الاتحاد الأوروبي أيضاً على تطوير وحدات عسكرية متجانسة عبر توحيد إنتاج الدبابات والمدفعية والمركبات المدرعة، ما يهدف إلى تقليل التعقيدات وتحسين الكفاءة. وهناك خطط لإنتاج هذه المعدات بكميات كبيرة لدعم الدفاع الأوروبي وفرص التصدير.
وقد بدأت الاستثمارات الأوروبية تتدفق على بريطانيا، مثل استثمار شركة راينميتال الألمانية في مصنع لإنتاج براميل المدفعية، وكذلك استثمارات محتملة في قطاع الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي.
تتيح الاتفاقية أيضاً تسهيل حركة القوات والمعدات المسلحة البريطانية عبر أوروبا بسرعة، ما يعزز الجاهزية العسكرية في حالات الطوارئ.
التعاون النووي تحت المظلة الأوروبية
يمثل التعاون النووي أحد الأركان الأساسية للأمن الأوروبي في غياب الدعم الأمريكي التقليدي. تملك بريطانيا وفرنسا مخزوناً نووياً مشتركاً يؤمن ردعاً استراتيجياً مهماً، حيث تمتلك بريطانيا 225 رأساً نووياً، وفرنسا حوالي 300 رأس نووي، مما يضمن درعاً نووياً قوياً في أوروبا.
هناك مناقشات محتملة مستقبلاً لتوسيع هذا التعاون ليشمل دولاً أخرى مثل ألمانيا، التي قد تساهم في تمويل برامج الردع مقابل حماية نووية، رغم أن حلف شمال الأطلسي يبقى المظلة الأمنية الأساسية في أوروبا.
ملاحظات وانتقادات
لا تخلو الاتفاقية من معارضة، خصوصاً من مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذين يرون أن هياكل القيادة الأوروبية أقل خبرة من حلف شمال الأطلسي، وأن مشاركة بريطانيا قد تقودها إلى مهام لا تملك فيها نفوذاً كبيراً، وربما تضعف الدور الأطلسي.
رغم ذلك، شهد الاتحاد الأوروبي تنفيذ مهام عسكرية متعددة في مناطق مثل الساحل الإفريقي والبلقان، بالإضافة إلى جهود مكافحة القرصنة في البحر الأحمر، حيث من المرجح أن تشارك القوات البريطانية بشكل أوسع في هذه العمليات في المستقبل.
وتعكس هذه الاتفاقية خطوة استراتيجية مهمة نحو تعزيز التعاون الأمني والدفاعي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، في ظل تحديات عالمية متزايدة. إنها تأكيد على أن بريطانيا، رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، لا تزال شريكاً أساسياً في بناء أمن واستقرار القارة الأوروبية، كما تمهد الطريق لتعاون أعمق ومستدام في مواجهة تهديدات اليوم ومستقبل الغد.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29311