يستعد الاتحاد الأوروبي لاتخاذ خطوة غير مسبوقة في تعامله مع الملف السوري، إذ من المتوقع أن يعلن اليوم عن رفع جزء كبير من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، في تطور يعكس تحولًا واضحًا في الموقف الأوروبي والدولي تجاه النظام الجديد في دمشق.
وأكدت مصادر دبلوماسية رفيعة أن القرار بات شبه محسوم، ومن المرجح أن يصدر خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذي يُعقد اليوم في بروكسل، وسط نقاشات مكثفة حول مستقبل العلاقة مع سوريا بعد التغيير السياسي الأخير الذي أطاح بالرئيس السابق بشار الأسد.
تماهي أوروبي مع الانعطافة الأميركية
وتأتي الخطوة الأوروبية المتوقعة بعد أيام من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن واشنطن سترفع العقوبات عن سوريا، في خطوة مفاجئة اعتبرها مراقبون “تتويجًا لتقارب خفي” بين إدارة ترامب وبعض العواصم الإقليمية المؤثرة في الملف السوري.
وأكد ترامب أن قراره جاء استجابة لطلب مباشر من السعودية وتركيا، في ما فُسر على أنه توافق إقليمي-دولي على إعادة تأهيل سوريا سياسيًا واقتصاديًا بعد سنوات من العزلة والعقوبات.
وقالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، قبيل الاجتماع، إنها تأمل أن يتم التوصل إلى توافق بين الدول الـ27 على “رفع العقوبات الاقتصادية” عن سوريا، في إطار دعم ما وصفته بـ”الفرصة الجديدة لتحقيق الاستقرار السياسي والتحول الديمقراطي”.
العودة إلى “الطبيعية”
وبحسب مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي، فإن القرار يأتي ضمن رؤية أوروبية أوسع لمنح سوريا “فرصة لتصبح دولة طبيعية”، مضيفًا: “يتفق الجميع الآن على أنه يجب منح سوريا فرصة للاستقرار، ومن ثم التحرك نحو التعددية، إن أمكن”.
وأشار المصدر إلى أن رفع العقوبات سيكون بمثابة دفعة أولى لمساعدة الحكومة الجديدة على معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة، ودعم المسار الانتقالي الذي بدأ يتشكل في البلاد بعد الإطاحة بالأسد، محذرًا من أن “استمرار العقوبات قد يؤدي إلى سيناريو مشابه للعراق أو ليبيا”.
وتأتي هذه التطورات الدولية بعد التغيير الجذري في الحكم داخل سوريا، حيث تم تعيين أحمد الشرع رئيسًا للبلاد في يناير/كانون الثاني الماضي، خلفًا لبشار الأسد الذي أطاحت به قوات المعارضة بقيادة هيئة تحرير الشام في تحرك عسكري مفاجئ أواخر العام الماضي.
وينتمي الشرع، وهو دبلوماسي سابق وشخصية مستقلة نسبيًا، إلى دائرة بعيدة عن أسرة الأسد، ويُنظر إليه على أنه شخصية توافقية تلقى قبولًا أوليًا من بعض الفصائل الداخلية والدول الإقليمية، خصوصًا بعد تبنيه خطابًا إصلاحيًا يدعو إلى المصالحة الوطنية والانفتاح على الخارج.
ويقول مراقبون إن تعيين الشرع ساهم في إعادة رسم صورة سوريا على الساحة الدولية، وسهل اتخاذ قرارات مثل رفع العقوبات، بعدما ظل الأسد ونظامه لعقود حجر عثرة أمام أي تسوية سياسية أو اقتصادية شاملة.
عقوبات انتقائية
ورغم التوجه الأوروبي العام نحو رفع العقوبات، إلا أن بعض الإجراءات ستبقى قائمة، بحسب مصدر دبلوماسي آخر.
وأكد المصدر أن الاتحاد سيُبقي على عقوبات فردية تطال الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعض الشخصيات المقربة منه، في إشارة إلى رفض الأوروبيين الكامل لإعادة تأهيل تلك الدائرة السياسية والأمنية التي كانت مسؤولة عن القمع الدموي خلال سنوات الحرب.
كما أشار المصدر إلى أن الاتحاد يعتزم فرض عقوبات على مجموعات أو أفراد يشتبه بتورطهم في مجازر وقعت مؤخرًا، منها حادثة قتل مئات من أفراد الطائفة العلوية في مارس/آذار الماضي، ما يعكس حرص الاتحاد على التمييز بين فتح الباب أمام الاستقرار من جهة، ومحاسبة مرتكبي الجرائم من جهة أخرى.
قراءة في الدوافع الأوروبية
يرى خبراء أن التحول الأوروبي يعكس مجموعة من الاعتبارات السياسية والاقتصادية، أبرزها الرغبة في منع موجة نزوح جديدة من سوريا نحو أوروبا في ظل التدهور الاقتصادي الحاد الذي تشهده البلاد، إضافة إلى محاولة إحداث توازن مع النفوذ الروسي المتنامي هناك.
كما تلعب الضغوط الإقليمية دورًا مهمًا، إذ يُعتقد أن السعودية وتركيا مارستا نفوذًا سياسيًا على بعض العواصم الأوروبية للدفع نحو سياسة أكثر مرونة تجاه دمشق، خاصة بعد التغيير في الحكم.
وتعليقًا على ذلك، يقول الباحث في الشؤون الأوروبية أنطوان لاكروا: “الاتحاد الأوروبي يدرك أن مواصلة العزلة والعقوبات لم تؤتِ ثمارها في الماضي، بل عمقت الأزمة. أما الآن، فهناك فرصة لإعادة بناء العلاقة مع دمشق بشروط جديدة، والاتحاد يسعى إلى أن يكون شريكًا في صياغة مستقبل سوريا، لا مجرد متفرج”.
مخاوف وتحفظات
ورغم الأجواء المتفائلة في بعض الأوساط الأوروبية، إلا أن دولًا عدة أبدت تحفظها على القرار، خاصة تلك التي طالما دعمت المعارضة السورية بشكل صريح، مثل فرنسا والسويد.
وتخشى هذه الدول من أن يؤدي رفع العقوبات إلى شرعنة حكومة لم تنل بعد اعترافًا كاملًا بشرعيتها الداخلية أو الدولية، في وقت لا تزال فيه الكثير من القضايا الحقوقية والسياسية دون حل، لا سيما ملف المعتقلين والمهجرين.
في المقابل، تدافع أطراف أخرى عن القرار باعتباره خطوة براغماتية تمليها المتغيرات الميدانية والسياسية، داعين إلى مراقبة الأداء الحكومي السوري الجديد عن كثب وربط أي دعم اقتصادي فعلي بمدى التزام دمشق بالإصلاحات المنشودة.
وإذا تم الإعلان عن رفع العقوبات اليوم كما هو متوقع، فإن ذلك سيمثل لحظة فاصلة في تعاطي الغرب مع الأزمة السورية، وربما بداية لمرحلة جديدة عنوانها: إعادة التأهيل المشروط.
الكرة الآن في ملعب دمشق الجديدة، فإما أن تنتهز الفرصة لإطلاق مسار إصلاحي فعلي ينقذ ما تبقى من الدولة السورية، أو أن تعيد إنتاج نظام جديد بأدوات قديمة، ما سيعيد الأزمة إلى مربعها الأول، وإن اختلفت الأسماء.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29314