بعد سنوات من التهميش والتراجع، بدأت الأحزاب السياسية التقليدية في فرنسا – الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين – تشعر ببوادر فرصة للعودة إلى الواجهة، واستعادة مكانتهما التاريخية في نظام الحزبين الذي حكم البلاد لعقود قبل صعود الرئيس إيمانويل ماكرون.
ففي ظل اقتراب نهاية ولاية ماكرون الثانية، واستبعاده من الترشح مجدداً بموجب الدستور، ومع خروج مارين لوبان من السباق الرئاسي المقبل بعد إدانتها بالاختلاس، ترى الأحزاب القديمة أن المشهد السياسي الفرنسي قد يكون مهيأً لتغيّر جديد يعيد التوازن إلى ما قبل عام 2017، حين تفكك المشهد التقليدي تحت زخم التيارات الوسطية واليمينية المتطرفة.
وقد استعاد حزب الجمهوريين زخماً مع فوز وزير الداخلية السابق برونو ريتيلو بقيادة الحزب، وهو سياسي معروف بمواقفه المتشددة، ويتمتع بشعبية متزايدة في أوساط القاعدة اليمينية. في المقابل، يستعد الحزب الاشتراكي هذا الأسبوع لاختيار سكرتير أول جديد، في خطوة يُنظر إليها على أنها حاسمة في تحديد مسار الحزب خلال الاستحقاقات المقبلة، خصوصاً الانتخابات الرئاسية لعام 2027.
سباق من أجل البقاء
رغم ضعف الحضور الشعبي والتنظيمي الذي تعاني منه الأحزاب التقليدية، فإن قادتها يراهنون على تغير المزاج العام في البلاد، حيث تشير استطلاعات غير رسمية إلى تراجع شعبية الرئيس ماكرون وتحالفه الوسطي، مقابل تصاعد الحنين إلى الأحزاب التي كانت تمثل استقراراً سياسياً في فرنسا لعقود.
داخل الحزب الاشتراكي، يقود نيكولا ماير روسينول، عمدة مدينة روان، محاولة لإعادة بناء الحزب من جديد، رغم تواضع الدعم الشعبي الظاهر حتى الآن. فقد اقتصرت حملته الأخيرة في باريس على حشد بضع مئات من المؤيدين، غالبيتهم من كبار السن، إلا أن ماير روسينول يرى أن اللحظة مناسبة لتوحيد اليسار خلف مرشح اشتراكي قوي يستطيع التفاوض مع بقية أطراف اليسار على أساس متين.
وقال جيروم جيدج، نائب برلماني بارز يدعم روسينول، إن هدفهم هو “تثبيت مرشح اشتراكي ثم التوجه إلى الحلفاء على اليسار”. ويعكس هذا الطموح رغبة الاشتراكيين في فك الارتباط مع هيمنة جان لوك ميلينشون، الذي هيمن على تمثيل اليسار في الانتخابات الرئاسية الأخيرة دون تحقيق اختراق فعلي في السلطة.
من نظام ثنائي إلى مشهد مفكك
قبل صعود ماكرون، كانت الحياة السياسية الفرنسية تدار في إطار قطبية تقليدية بين الحزب الاشتراكي من جهة، وحزب الجمهوريين (وريث الديغولية) من جهة أخرى. هذا التوازن انهار عندما دخل ماكرون السباق الرئاسي في 2017 ونجح في جذب المعتدلين من الجانبين، متسبباً في انهيار نسبة التصويت للحزبين القديمين.
في انتخابات 2022، مُني الحزبان بهزيمة قاسية: الجمهوريون لم يتجاوزوا عتبة 5%، والاشتراكيون بالكاد حصلوا على 1.7%. في المقابل، تصاعد نجم مارين لوبان وجان لوك ميلينشون، ما عمّق حالة الاستقطاب السياسي وكرّس المشهد الثلاثي الأضلاع.
لكن هذا المشهد بدأ يتزعزع مجدداً، مع تقلص تأثير ماكرون وتنامي الخلافات داخل معسكره. وقد استفاد حزب الجمهوريين من هذه الأجواء، إذ عاد إلى الحكم من خلال انتخابات تشريعية مبكرة دعا إليها ماكرون نفسه، في خطوة وُصفت بأنها رهان خاسر أضرّ بمعسكره أكثر مما أفاده.
أما الاشتراكيون، فقد شاركوا في تحالف يساري بقيادة ميلينشون خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، وهو ما منحهم مقاعد مؤثرة، لكنه لم يُنهِ الجدل حول هيمنة اليسار الراديكالي على الفضاء السياسي اليساري.
التحديات المقبلة
رغم تحسن الظروف، لا تزال الطريق أمام الحزبين التقليديين محفوفة بالعقبات. على اليسار، يواجه الاشتراكيون معضلة مزدوجة: التخلص من هيمنة ميلينشون، دون خسارة قاعدته الانتخابية. أما على اليمين، فالتحدي يكمن في استعادة القيادات المحافظة التي انضمت إلى معسكر ماكرون وتستعد الآن لدخول السباق الرئاسي بأجندات خاصة، مثل إدوار فيليب وجيرالد دارمانين.
أحد وزراء الحكومة المنتمين للجمهوريين صرّح بأن إعادة التموقع بدأت فعلاً، قائلاً: “مع مرور الوقت، تحوّلت شعبية ماكرون نحو الناخبين اليمينيين. لا مفر من إعادة تنظيم الصفوف، حيث يعود هؤلاء الناخبون إلى الحزب، فيما يتجه الباقون نحو الاشتراكيين”.
المعركة المقبلة ليست فقط على القيادة، بل على صياغة سردية سياسية جديدة تستطيع إقناع الفرنسيين بأن العودة إلى نظام الحزبين هي طريق الاستقرار بعد مرحلة التجريب السياسي التي مثّلها ماكرون.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29344