شهد النظام المالي العالمي تحولات كبيرة تشكل ملامح مستقبل العملات الدولية، وسط تصاعد التنافس بين اليورو والدولار الأمريكي، مع تصاعد هيمنة العملات الرقمية الخاصة المدعومة بالعملة الأمريكية. ففي الوقت الذي يعتزم فيه الاتحاد الأوروبي إطلاق “اليورو الرقمي” لتعزيز سيادته النقدية، يعمل قانون أمريكي جديد على ترسيخ التفوق العالمي للدولار بآليات رقمية متطورة.
يرى خبراء الاقتصاد أن النظام النقدي العالمي يدخل مرحلة جديدة من الانقسام، حيث يقف نظامان متوازيان: أحدهما أكثر مركزية وتقوده البنوك المركزية، ممثلة في مشروع اليورو الرقمي الأوروبي والعملات الرقمية الأخرى للبنوك المركزية (CBDCs)، والآخر نظام أقل مركزية يتحرك بحرية بفضل العملات الرقمية المستقرة الخاصة المدعومة بالدولار.
في يونيو 2025، أقر مجلس الشيوخ الأمريكي قانونًا يُعرف بـ”GENIUS”، وهو أول إطار قانوني شامل للعملات الرقمية في الولايات المتحدة. يسمح القانون للقطاع الخاص بإنشاء عملات رقمية مستقرة مدعومة بالدولار، ما يعزز توفر الدولار خارج الولايات المتحدة، مع فرض ضوابط صارمة داخل السوق الأمريكي للحد من مخاطر التضخم وعدم الاستقرار المالي.
ويشكل هذا القانون حجر الزاوية في إستراتيجية أمريكية جديدة تعيد توجيه الطلب العالمي على الدولار عبر منصات منظمة تتيح لواشنطن التحكم في تداول الدولار الرقمي، فرض الضرائب عليه، واستخدامه كأداة نفوذ اقتصادية وسياسية. ويقول وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت إن العملات الرقمية المستقرة يمكن أن تصبح من أكبر مشترِي سندات الخزانة الأمريكية، مما يدعم تمويل الدين الأمريكي المتزايد.
تأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه الدول الأخرى من ضغوط متزايدة في الحفاظ على سيادتها النقدية وسط ثورة التكنولوجيا المالية.
فقد حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد من أن العملات الرقمية المستقرة المدعومة بالدولار قد تسمح بتجاوز السلطات النقدية المحلية في أماكن أخرى، مما يهدد نفوذ اليورو ويقلل من قدرتها على التحكم في أسواق رأس المال الأوروبية.
من جهته، يصف الخبير برونيلو روزا هذه الديناميكية بأنها “خلق نظام جديد من الالتزامات يمنح الدولار فرصة جديدة للحياة”، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تنسج شبكة معقدة من العملات الرقمية المستقرة لتعزيز تفوق عملتها.
في المقابل، يواصل الاتحاد الأوروبي تحركاته لوضع أُطر تنظيمية صارمة للعملات الرقمية المستقرة، بالإضافة إلى تطوير اليورو الرقمي، الذي يهدف إلى تعزيز نظام الدفع الإلكتروني بين دول منطقة اليورو وتقليل اعتمادها على مزودي خدمات الدفع الأمريكية مثل فيزا وماستركارد. وتمثل هذه الخطوة جزءًا من مساعي تعزيز السيادة النقدية والسيطرة على البنية التحتية المالية في مواجهة تحديات الأمن الجيوسياسي.
ورغم ذلك، لا يخلو المشروع الأوروبي من تحديات؛ فاليورو الرقمي لا يزال قيد التطوير، وموجهًا بالأساس للاستخدامات الفردية الصغيرة، مما يجعله أقل مناسبة للمعاملات التجارية الكبرى والشركات، على عكس العملات الرقمية المستقرة الأمريكية التي تنمو بسرعة في هذا المجال.
تشير دراسات إلى أن بعض البنوك الأوروبية كانت متخوفة في البداية من اليورو الرقمي، لكنها بدأت ترى فيه خيارًا أفضل من السماح للعملات المستقرة الأمريكية بالهيمنة على النظام المالي الأوروبي، ما قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على السيولة وسوق رأس المال المحلي.
يرى بعض الخبراء أن المنافسة بين اليورو الرقمي والعملات الرقمية المستقرة الأمريكية هي صراع على النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي، وليست مجرد مسألة تقنية لتحسين نظم الدفع. فالسيطرة على النظام المالي الرقمي تضمن للدول تأثيرًا أكبر في الاقتصاد العالمي، خاصة في أوقات الأزمات أو الاضطرابات السياسية.
في الوقت الذي تسعى فيه أوروبا لإطلاق نسخ مقومة باليورو من العملات الرقمية المستقرة، تبقى هناك مسافة طويلة قبل أن يتسنى لليورو الرقمي أن يشكل تهديدًا حقيقيًا للدولار، خاصة مع الدعم القانوني والمؤسسي الكبير الذي تتمتع به الولايات المتحدة.
في الختام، مع انطلاق عصر العملات الرقمية، يظهر أن صراع السيادة المالية لا يزال محتدماً، حيث يحاول اليورو استعادة دوره وسط هيمنة الدولار الأمريكي التي تتجدد بشكل متطور. وفي هذا السباق الجديد، قد يُحدد نجاح كل طرف في التأقلم مع التكنولوجيا الجديدة ومستوى السيطرة على البنية التحتية الرقمية لمستقبل العملات العالمية.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29443