بدأت حكومة المملكة المتحدة بإخراج صندوق استثماري كان يعمل في الظل من وراء الكواليس، مانحةً إياه دورًا أكبر وتمويلاً إضافيًا لتعزيز قدراته، في خطوة تعكس اتجاهاً استراتيجياً جديداً يربط الأمن القومي بالتكنولوجيا المتقدمة والاستثمار طويل الأمد.
الصندوق، المعروف باسم “صندوق الاستثمار الاستراتيجي للأمن القومي” (NSSIF)، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأجهزة الاستخبارات البريطانية: MI5، MI6، وGCHQ. ورغم أن الصندوق تأسس عام 2018، إلا أن تفاصيل عمله وآلية تمويله بقيت طي الكتمان، حتى بدأ مؤخرًا يظهر تدريجيًا في المشهد العام، مدعومًا بزيادة جديدة في ميزانيته قدرها 330 مليون جنيه إسترليني تُوزع على أربع سنوات.
من الظل إلى العلن
ويأتي خروج الصندوق من عزلته بالتزامن مع تصاعد التوترات الجيوسياسية والتنافس التكنولوجي العالمي، ووفقًا لمصادر مطلعة تحدثت لـبوليتيكو، فإن هذه الخطوة ليست عشوائية، بل تعكس إدراكًا متزايدًا بأن الصراعات المستقبلية – كما أثبتت حرب أوكرانيا – سيُحسم جزء كبير منها عبر التفوق التكنولوجي، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي، والطائرات بدون طيار، وأجهزة الاستشعار الكمومية، والاتصالات المشفرة.
ولا يقتصر دور الصندوق على دعم الجواسيس البريطانيين وأجهزتهم، بل يمتد أيضًا إلى الاستثمار المباشر في الشركات الناشئة التي تطوّر تقنيات ذات استخدام مزدوج – مدني وعسكري. وقد بلغ إجمالي استثماراته حتى عام 2023 نحو 220 مليون جنيه إسترليني، دون توفر بيانات أحدث.
سرية الاستثمارات… ومصير التكنولوجيا
ورغم الطابع الأمني للصندوق، إلا أن استثماراته لا تذهب عادةً إلى مشاريع سرية بحد ذاتها، بل إن “السر يكمن في هوية الشركات التي يُستثمر فيها”، كما قال أنتوني فينكلشتاين، المستشار العلمي السابق للأمن القومي وأحد مؤسسي الصندوق. فالهدف الرئيسي يتمثل في ضمان أن تكون القدرات التكنولوجية الحيوية مملوكة ومصنوعة داخل بريطانيا، ما يُعزز “السيادة التقنية” ويُجنّب الوقوع في التبعية الأجنبية.
وبالفعل، بدأ الصندوق يعقد شراكات ملموسة، منها مشاركته في تمويل شركة البرتغالية لتصنيع الطائرات بدون طيار “تيكيفير”، والتي أعلنت استثمارًا بقيمة 400 مليون جنيه إسترليني في المملكة المتحدة هذا العام، وذلك بعد جولة تمويل قادها NSSIF أواخر العام الماضي.
أهداف مزدوجة: أمن قومي ونمو اقتصادي
يتبنى الصندوق رؤية مزدوجة: تعزيز قدرات الأمن والدفاع البريطانية من جهة، ودعم النمو الاقتصادي والتكنولوجي المحلي من جهة أخرى، من خلال ضخ رؤوس أموال “صبرية” طويلة الأجل في شركات واعدة. كما يسهم في تحفيز “النظام البيئي” للابتكار، عبر إزالة العوائق أمام الشركات الناشئة لتطوير واختبار النماذج الأولية بسرعة داخل المؤسسات الحكومية.
وقال إدموند فيليبس، أحد شركاء الصندوق، إن إنشاؤه جاء استجابة لفكرة أن الغرب يخسر ميزته التكنولوجية لصالح أنظمة استبدادية مثل الصين وروسيا. وقد استلهمت فكرته، جزئياً، من In-Q-Tel، صندوق الابتكار التابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA).
مستقبل تحت الضوء
ورغم التوسع في الميزانية والحضور العلني، لا يزال مستقبل الصندوق يواجه تحديات، منها كيفية الحفاظ على فعاليته واستقلاله وسط ازدياد التدقيق السياسي والإعلامي، خاصة في ظل حساسية الاستثمارات الأمنية وطبيعة الشراكات التكنولوجية العابرة للحدود.
ومع تزايد الحديث في بريطانيا عن ضرورة “تحصين الأمن السيبراني” وتعزيز القدرات الدفاعية ضد التجسس الرقمي وهجمات الذكاء الاصطناعي، يبدو أن NSSIF أصبح اليوم أداة مركزية في المعركة غير المرئية التي تخوضها لندن من أجل أمنها واستقلالها التقني.
وبينما لا تزال الكثير من تفاصيل عمله طي السرية، فإن المؤكد هو أن الجواسيس البريطانيين لم يعودوا يعتمدون على أقلام متفجرة أو سيارات تطلق الصواريخ، بل على شبكات رقمية متقدمة ومصادر تمويل استراتيجية تُعيد تشكيل قواعد اللعبة الأمنية من خلف الكواليس.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29466