اشعل انهيار نظام الأسد في سوريا سباقًا للسيطرة على قلب الشرق الأوسط، وهو صراع قد يؤجل إلى أجل غير مسمى السلام والاستقرار اللذين يتوق إليهما السوريون، وقد يمتد ليشمل منطقة أوسع تعصف بها الحروب بالفعل.
وبحسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية شنت ثلاث قوى أجنبية ضربات جوية، في الأسبوع الأول لسوريا بدون بشار الأسد، الطاغية الذي فرّ إلى موسكو، استهدفت مواقع داخل البلاد لتحقيق أهدافها الاستراتيجية: الولايات المتحدة ضد فلول تنظيم الدولة في الشرق، وتركيا ضد القوات الكردية في الشمال الشرقي، وإسرائيل ضد أصول عسكرية سورية في عدة مواقع.
في الوقت نفسه، كانت روسيا وإيران، أبرز داعمي الأسد وأكبر الخاسرين من التغيير في دمشق، تسارعان إلى سحب أو إعادة تموضع قواتهما في البلاد.
وقد أعلنت الحكومة الإيرانية عن إجلاء أربعة آلاف عنصر من سوريا منذ سقوط الأسد، كما بدأت روسيا بسحب قواتها من قواعدها في أنحاء سوريا ونقلها إلى قاعدة حميميم الجوية على الساحل السوري المطل على البحر المتوسط، رغم أن طبيعة هذه التحركات لم تتضح بعد، وما إذا كانت تمثل انسحابًا كاملًا.
هذا النشاط يُعد مقياسًا للأهمية الاستراتيجية الحيوية لسوريا باعتبارها مفترق طرق للأديان والأيديولوجيات، وبفضل موقعها الجغرافي الذي يجاور خمس دول أخرى في الشرق الأوسط، كما يُبرز الإمكانية الكبيرة لحدوث اضطرابات مع تغير التحالفات السياسية والعسكرية، وسيطرة المتمردين الإسلاميين، بقيادة هيئة تحرير الشام (HTS)، على دمشق.
حكمت عائلة الأسد سوريا كديكتاتورية علمانية ومعادية بشدة للغرب على مدى خمسة عقود، متحالفة أولاً مع الاتحاد السوفيتي — ثم روسيا — ومع إيران الثورية الشيعية.
وتغير سيطرة المقاتلين المسلمين السنة الأسبوع الماضي، والذين استلهم بعضهم أفكارهم من تنظيم القاعدة، بشكل جذري ميزان القوى الإقليمي.
المحور الشرقي-الغربي الذي كان يربط طهران ببيروت عبر العراق وسوريا تم قطعه؛ وأصبح ممر القوة الآن يمتد من الشمال إلى الجنوب، من تركيا عبر سوريا إلى الأردن ودول الخليج العربي السنية.
إن التاريخ الحديث للانتفاضات والانقلابات في المنطقة يحتوي على تذكيرات مشؤومة بإمكانية عدم الاستقرار في حالة الإطاحة برجل قوي، فقد أدت الإطاحة بنظام صدام حسين السني في العراق في عام 2003 إلى تمكين الأغلبية الشيعية في البلاد وإشعال فتيل التمرد السني الذي تطور إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
فقد فتحت الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا عام 2011 الباب أمام حرب أهلية طويلة بين الفصائل المتمردة المدعومة من قوى أجنبية، وأطاح انقلاب عسكري بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً بقيادة الإخوان المسلمين في مصر، وأعاد النظام السلطوي هناك.
الحرب الأهلية في سوريا قد تستمر إذا سعى المنتصرون للانتقام، أو انقسم المتمردون، أو حاولت القوى الأجنبية فرض نفوذها.
وسيكون قرار إيران الرد على الضربة التي تلقتها طموحاتها الإقليمية أمراً حاسماً في تحديد مصير كل من سوريا والشرق الأوسط الجديد، فقد تقرر طهران الدخول في مفاوضات جديدة مع الغرب بشأن برنامجها النووي، أو قد تضاعف جهودها لإعادة بناء شبكتها المتضررة من الميليشيات الحليفة.
الخطر الأكثر إلحاحاً للعنف يكمن في وحول الجيب الذي يسيطر عليه الأكراد في شمال شرق وشرق سوريا، حيث يتمركز حوالي 900 جندي أميركي إلى جانب قوة يقودها الأكراد تم تأسيسها جزئياً لمحاربة تنظيم الدولة.
عارضت تركيا، التي خاضت تمرداً كردياً استمر لعقود داخل حدودها، منذ زمن طويل هذا الجيب في سوريا وصعود المتمردين السُنّة المدعومين من انقرة يمهد الطريق لجولة جديدة من الصراع بين العرب والأكراد، ما قد يدفع أنقرة إلى التوغل أكثر في سوريا ويورط القوات الأميركية.
كما أن هذه المنطقة هي الموقع الرئيسي الذي حاول فيه تنظيم الدولة إعادة تنظيم صفوفه، مما يزيد من خطر اندلاع مزيد من القتال، وهو ما قد يجعل الوجود الأميركي هناك غير قابل للاستمرار، بحسب تشارلز ليستر، زميل بارز في معهد الشرق الأوسط، الذي تحدث في جلسة نقاش الأسبوع الماضي.
إذا واجه الأكراد تهديداً جاداً لوطنهم في أقصى شمال البلاد، فمن المحتمل أن يتم سحب قواتهم من العديد من المناطق ذات الأغلبية العربية التي يسيطرون عليها حالياً، حسبما قال برزان إيسو، صحفي كردي مقيم في شمال شرق سوريا، وأضاف: “نحن نخشى تركيا أكثر من هيئة تحرير الشام”.
أي انسحاب كردي سيترك القوات الأميركية عرضة للخطر في بعض قواعدها على الأقل، ويثير تساؤلات حول مستقبل مهمة الولايات المتحدة لمكافحة تنظيم الدولة.
وفي الوقت نفسه، فإن الضربات الإسرائيلية على البنية التحتية العسكرية السورية والأسلحة تهدد بتنفير المتمردين الذين اكتسبوا نفوذاً جديداً.
وقال مايكل هورويتز، رئيس الاستخبارات في شركة لي بيك إنترناشيونال، وهي شركة استشارية أمنية في الشرق الأوسط، إن الجماعات لم تركز في السابق على إسرائيل باعتبارها تهديداً، كما نقلت إسرائيل قواتها إلى منطقة عازلة منزوعة السلاح داخل سوريا وخارجها، مما أدى إلى تفاقم الشكوك السورية في نوايا إسرائيل.
تصف إسرائيل أفعالها بأنها دفاعية لضمان أن أي قوة تنشأ في دمشق لن تتمكن أبدًا من تشكيل تهديد تقليدي، وفقًا لما قاله هوروفيتز، لكنه أضاف: “في هذه العملية، هم يجعلون من سوريا الجديدة عدواً منذ اليوم الأول.” وفي الوقت نفسه، تحرم إسرائيل السلطات الجديدة في دمشق من الوسائل العسكرية لمواجهة أي تحديات أخرى قد تظهر.
جيران سوريا العرب، الذين كانوا في طور تطبيع العلاقات مع الأسد عندما استولى المتمردون على السلطة، يراقبون التطورات بحذر، ففي السنوات الأولى من الانتفاضة السورية، سارعت الدول العربية إلى دعم فصائل مختلفة ضمن الجيش السوري الحر، مما ساهم في الانقسامات التي أضعفت محاولات المتمردين السابقة لإسقاط النظام، لكن مصدر قلقهم الأكبر كان النفوذ المتزايد لإيران، ولذلك تصالحوا مع الأسد على أمل إقناعه بالابتعاد عن طهران.
يقول فواز جرجس، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، إن الدول العربية ستكون مرتاحة لأن محور إيران قد تم تحطيمه، لكنها في الوقت نفسه تخشى الإسلاميين وانتشار الديمقراطية، وأضاف أنه إذا نشأ نظام جديد في دمشق يجعلهم غير مرتاحين، فقد يحاولون التأثير على مسار سوريا من خلال دعم عملاء محليين.
وأوضح جرجس أن سوريا تُعد بوتقة تتصارع فيها الأيديولوجيات والأديان، حيث يمتد فيها طيف من الجهاديين إلى الإسلاميين المعتدلين، والعلمانيين، والديمقراطيين، وتشمل أقليات كبيرة من المسيحيين والعلويين، ولكل منهم آمال وتوقعات مختلفة للمستقبل، مما يجعلهم عرضة للتدخلات الأجنبية “إن الديناميكيات الداخلية هي التي قد تسمح حقًا للدول المجاورة بالتدخل في الشؤون الخارجية لسوريا وتفاقم المشاكل”، واضاف “لقد كانت سوريا لفترة طويلة ساحة حرب بالوكالة، ولا أعتقد أن هذا قد تغير”.
وأضاف جرجس: “إن حجم التحدي المتمثل في بناء سوريا جديدة من رماد البلاد المدمرة يجعل المخاطر وعدم اليقين تفوق أي إمكانية أو وعود”، وقال: “الاحتمالات ليست في صالح انتقال سلس وسلمي”.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=28853