بعد مرور عشر سنوات على هجمات باريس الدامية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لا تزال فرنسا تعيش تحت ظلال تلك الليلة التي غيّرت وجهها الأمني والسياسي إلى الأبد.
فبينما يكرّم الفرنسيون ذكرى أكثر من 130 قتيلاً سقطوا في الحانات والشوارع وقاعة “باتاكلان”، تبقى آثار المأساة حاضرة في القوانين والممارسات اليومية وفي ملامح النقاش العام حول الحرية والأمن.
في عام 2015، كانت الهجمات صدمة قومية هزت المجتمع الفرنسي في عمقه، إذ مثّلت أكبر عمل إرهابي على الأراضي الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية. ومنذ تلك الليلة، أصبحت فكرة “فرنسا الآمنة” تُبنى على منظومة أمنية مشددة، ومراقبة مستمرة، واستعداد دائم للطوارئ، على حساب ما يعتبره البعض تقويضًا للحريات الفردية.
منذ ذلك الحين، أقرت الحكومات المتعاقبة ــ سواء من اليمين أو اليسار ــ عشرات القوانين تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”. فتم توسيع صلاحيات أجهزة الأمن في المراقبة والتنصت، والسماح بفرض الإقامة الجبرية أو إغلاق أماكن العبادة دون إذن قضائي مسبق.
كما جرى دمج كثير من صلاحيات “حالة الطوارئ” التي فُرضت بعد الهجمات في التشريعات العادية عام 2017، لتصبح جزءًا دائمًا من المنظومة القانونية الفرنسية.
يقول جان ميشيل فوفيرج، القائد السابق لوحدة التدخل الخاصة RAID، إن “فرنسا بنت درعًا أمنيًا متينًا، ولا أحد من السياسيين يجرؤ اليوم على التراجع عنه”.
ويرى أن هذا الدرع ساعد في منع وقوع هجمات جماعية جديدة منذ حادثة نيس عام 2016، وهو ما يعزز شعورًا عامًا بأن القيود المشددة ضرورية “لحماية الجمهورية”.
لكن هذا التحول لم يخلُ من الجدل. فالقوانين الجديدة وسّعت رقابة الدولة على الجمعيات الدينية، خصوصًا الإسلامية، وأعادت تعريف العلاقة بين العلمانية وحرية المعتقد.
وقد تعرّض قانون “الانفصالية” لعام 2021 لانتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية باعتباره يستهدف المسلمين بشكل غير مباشر، رغم تأكيد الحكومة أنه يهدف إلى “مكافحة التطرف وحماية قيم الجمهورية”.
وتشير الدراسات إلى أن الرأي العام الفرنسي لا يزال يميل إلى دعم هذه السياسات. فبحسب استطلاع لمؤسسة إيلاب في يوليو الماضي، يرى غالبية الفرنسيين أن “السلامة العامة تستحق بعض التضحيات في مجال الحريات الشخصية”، وهو ما يعكس تحوّلًا في المزاج الوطني منذ 2015.
في المقابل، يحذر بعض السياسيين من أن هذا التوازن يميل بشكل خطير. يقول النائب بوريا أميرشاهي، أحد القلائل الذين رفضوا تمديد حالة الطوارئ عام 2015، إن “فرنسا تقترب تدريجيًا من نموذج تقييدي يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة تتجاوز القضاء”، مضيفًا أن ما بدأ كإجراء استثنائي أصبح “نمط حكم دائم”.
ويحذر أميرشاهي من أن أدوات الأمن التي جرى إنشاؤها “لمكافحة الإرهاب” قد تُستخدم يومًا ما لاستهداف المعارضين أو الجماعات السياسية، خصوصًا مع تصاعد نفوذ اليمين المتطرف.
فحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان يدعو الآن إلى “منع التعبير عن الفكر الإسلامي في المجال العام”، في توجه يثير مخاوف الحقوقيين من تسييس قوانين الأمن.
وبينما يضع الفرنسيون الزهور أمام مقاهي باريس تخليدًا لضحايا تلك الليلة السوداء، يبقى النقاش قائمًا حول إرثها: هل نجحت فرنسا في حماية نفسها، أم فقدت شيئًا من روحها الديمقراطية في الطريق؟.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29760