بروكسل تسعى إلى تصنيع شرائح الذكاء الاصطناعي داخل أوروبا لتعزيز السيادة التكنولوجية

تسعى المفوضية الأوروبية إلى تقليل اعتماد أوروبا على شركات تصنيع الرقائق الدقيقة الأمريكية، وخاصة شركة Nvidia، في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال بناء مصانع وتصميم شرائح ذكاء اصطناعي على الأراضي الأوروبية.

جاء ذلك على لسان هينا فيركونين، رئيسة قسم التكنولوجيا في المفوضية الأوروبية، خلال مقابلة مع صحيفة بوليتيكو على هامش فعالية ITF World الصناعية في أنتويرب، حيث أكدت أن الهدف الاستراتيجي هو تعزيز السيادة التكنولوجية للاتحاد الأوروبي عبر إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي في أوروبا.

وقالت فيركونين: “إن قدرتنا على تصميم وتصنيع شرائح الذكاء الاصطناعي في المستقبل تشكل جزءًا مهمًا للغاية من سيادتنا التكنولوجية”. وأضافت أن هذه الخطوة لا تقتصر فقط على تعزيز القدرات الصناعية والابتكارية، بل ترتبط أيضًا بالأمن الرقمي والاقتصادي لأوروبا.

اعتماد أوروبي على رقائق أميركية
تعتمد شركات الذكاء الاصطناعي الأوروبية بشكل كبير على الرقاقات التي تصنعها شركات أمريكية عملاقة مثل Nvidia، والتي توفر الطاقة الحاسوبية اللازمة لتدريب وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة. هذا الاعتماد أظهر هشاشته مؤخرًا، عندما هددت الولايات المتحدة بفرض قيود على تصدير بعض هذه الرقائق إلى أوروبا، وهو ما أثار مخاوف في بروكسل من التأثيرات الاقتصادية والتكنولوجية المحتملة.

ورغم تراجع الولايات المتحدة عن هذه القيود في الأسبوع الماضي، لا تزال المفوضية الأوروبية تؤكد على أهمية بناء القدرات المحلية لتصنيع هذه الرقائق، لتجنب الاعتماد المفرط على الخارج، الذي يمكن أن يشكل خطرًا استراتيجيًا.

خطة صناعة الرقائق في الاتحاد الأوروبي
تُدرج جهود تصنيع رقائق الذكاء الاصطناعي ضمن مراجعة شاملة لقانون الرقائق في الاتحاد الأوروبي، حيث من المتوقع أن تقدم المفوضية الأوروبية تقريرًا نهائيًا بحلول سبتمبر 2026 يتضمن خططًا طموحة لزيادة حصة أوروبا في السوق العالمية لتصنيع الرقائق إلى 20% بحلول عام 2030.

ومع ذلك، أشار مدققو الحسابات الأوروبيون مؤخرًا إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يحقق حتى الآن التقدم الكافي للوصول إلى هذا الهدف. وأكدت فيركونين على ضرورة الاستثمار في المجالات التي توجد فيها فجوات صناعية وتقنية، لضمان قدرة أوروبا على المنافسة في سوق يتسم بسرعة التطور والتغير.

تحديات الصناعة الأوروبية
أوضح لوك فان دن هوف، الرئيس التنفيذي لشركة أبحاث الرقائق البلجيكية إيميك، أن إحدى التحديات الرئيسية التي تواجه الصناعة الأوروبية هي غياب الشركات الضخمة التي تمتلك مصانع تصنيع خاصة بها، مثل Nvidia وIntel في الولايات المتحدة. هذه الشركات تُعرف باسم شركات “تصميم الرقائق بدون مصانع” (fabless)، والتي تعتمد في المقابل على شركات تصنيع متخصصة تقوم بتصنيع الرقائق نيابة عنها.

وقال فان دن هوف: “نحن بحاجة إلى بعض هذه الشركات، وهذا ما يجب أن نُمكّنه”، في إشارة إلى أهمية دعم نمو شركات تصميم الرقائق الأوروبية التي لا تمتلك مصانع، وتوفير بنية تحتية متطورة للتصنيع في أوروبا.

شركات ناشئة أوروبية تطمح للمنافسة
في الأشهر الأخيرة، برزت عدة شركات ناشئة أوروبية تسعى إلى بناء شرائح ذكاء اصطناعي تنافس منتجات Nvidia الأمريكية، مثل شركة Openchip الإسبانية. لكن رغم هذه الطموحات، لم تصل هذه الشركات حتى الآن إلى مرحلة جاهزة للتسويق التجاري، مما يعكس الفجوة الحالية في القدرة التكنولوجية الصناعية لأوروبا.

تسعى المفوضية الأوروبية إلى دعم هذه الشركات الناشئة عبر توفير بيئة استثمارية وبنية تحتية تكنولوجية متقدمة، بالإضافة إلى تسهيل وصول الباحثين والمطورين إلى موارد الحوسبة العالية التي تحتاجها عمليات تصميم وتجريب الرقائق.

علاقات التعاون مع شركات أميركية
خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، التقى فيركونين بممثلين من شركة Nvidia، ووصفت اللقاء بأنه كان إيجابيًا، قائلة: “إن أوروبا قارة مثيرة للاهتمام للغاية من وجهة نظرهم”.

توضح هذه التصريحات رغبة بروكسل في إقامة شراكات استراتيجية مع اللاعبين الرئيسيين في صناعة الرقائق، ضمن إطار محاولة بناء صناعة أوروبية قوية، دون قطع العلاقات مع القوى الكبرى.

وأضافت: “إنها استثمارات ضخمة حيث هناك حاجة إلى كمية كبيرة جدًا من رقائق الذكاء الاصطناعي”، مشيرة إلى حجم الطلب الهائل الذي تفرضه التطبيقات الصناعية والتكنولوجية للذكاء الاصطناعي.

الأبعاد الاستراتيجية لتصنيع شرائح الذكاء الاصطناعي
تبرز أهمية تصنيع شرائح الذكاء الاصطناعي محليًا في أوروبا ليس فقط من الناحية الاقتصادية، بل تمتد أيضًا إلى الجانب الأمني والسياسي. فالرقائق الدقيقة تُعد من المكونات الأساسية في أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تدخل في العديد من التطبيقات الحساسة، بدءًا من الصناعات التكنولوجية المتقدمة إلى القطاعات الدفاعية والاستخباراتية.

وبناءً على ذلك، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تقليل المخاطر المرتبطة بالاعتماد على موردين خارجيين، خصوصًا في ظل تزايد التوترات الجيوسياسية وتأثيرها المحتمل على سلاسل الإمداد العالمية.

المستقبل والتحديات
رغم الطموحات الأوروبية، يبقى الطريق أمامها طويلًا ومليئًا بالتحديات، بدءًا من تكاليف البنية التحتية الضخمة التي تتطلبها مصانع الرقائق، مرورًا بضرورة تطوير الكوادر البشرية المؤهلة، وصولًا إلى المنافسة الشديدة من الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية.

لكن المبادرات الحالية تعكس وعيًا متزايدًا بأهمية بناء قدرة تكنولوجية ذاتية ومستقلة في مجال الذكاء الاصطناعي، والذي يعد أحد المحركات الرئيسية للاقتصاد الرقمي في المستقبل.

وفي خضم هذه التحديات، تستمر أوروبا في رسم استراتيجياتها لتعزيز مكانتها في سلسلة القيمة العالمية لصناعة الرقائق، سعياً إلى تحقيق توازن بين التعاون الدولي وبناء القدرات المحلية، ما يعزز مكانتها في الاقتصاد الرقمي العالمي ويدعم استراتيجياتها الأمنية والسياسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.