أعلنت تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أن الحكومة البريطانية تراجعت عن مطلبها لشركة آبل بفتح “باب خلفي” يتيح للسلطات الوصول إلى بيانات المستخدمين. التطور أنهى مواجهة سياسية وقانونية محتدمة استمرت لأشهر، وأصبحت قضية الخصوصية خلالها نقطة اشتعال بين لندن وواشنطن.
خلفية الأزمة
القصة تعود إلى فبراير الماضي، حين أزالت شركة آبل من السوق البريطانية خدمة حماية البيانات المتقدمة، وهي أعلى مستويات التشفير الشامل الذي توفره الشركة لمستخدمي أجهزة آيفون وخدمات “آي كلاود”. جاء ذلك بعد أن أصدرت وزارة الداخلية البريطانية إشعارًا بالقدرة الفنية يطالب الشركة بإتاحة وسيلة وصول إلى بيانات المستخدمين بموجب قانون الصلاحيات التحقيقية، المعروف شعبيًا بـ”ميثاق المتلصص”.
آبل رفضت الامتثال، واعتبرت الخطوة تهديدًا لثقة المستهلكين، ثم رفعت شكوى أمام محكمة الصلاحيات التحقيقية للطعن في صلاحيات وزير الداخلية. الشركة حذرت من أن أي تراجع في التشفير سيقوّض خصوصية مئات الملايين من المستخدمين عالميًا، ويجعل بياناتهم عرضة للاختراق والاستغلال.
الضغوط الأمريكية
في واشنطن، تابعت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب النزاع عن كثب، خشية أن يشكّل سابقة قد تُضعف حماية البيانات للأميركيين. وكتبت غابارد عبر منصة “إكس”: “على مدار الأشهر الماضية، عملنا عن كثب مع شركائنا في المملكة المتحدة، ومع الرئيس ونائب الرئيس، لضمان بقاء بيانات الأميركيين آمنة وحماية حقوقنا الدستورية وحرياتنا المدنية.”
صحيفة فاينانشال تايمز كشفت الشهر الماضي أن مسؤولين رفيعي المستوى في البيت الأبيض، بينهم نائب الرئيس جيه دي فانس، مارسوا ضغوطًا مباشرة على لندن للتخلي عن نزاعها مع آبل. وبحسب الصحيفة، كان الملف يشكّل عقبة في طريق مفاوضات اتفاقية التعاون التكنولوجي بين البلدين.
حقوق الإنسان والانتقادات الدولية
التوتر تضاعف مع صدور التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية حول حقوق الإنسان الشهر الماضي، والذي أشار بوضوح إلى “المخاوف من محاولات الحكومة البريطانية تقليص أو إلغاء التشفير الفعّال (وبالتالي خصوصية المستخدم) على المنصات الرقمية”. ورغم أن التقرير بدا وكأنه يخلط بين قانون السلامة على الإنترنت وقانون الصلاحيات التحقيقية، إلا أنه اعتُبر إشارة قوية إلى امتعاض واشنطن من المسار الذي اختارته لندن.
منظمات حقوقية أوروبية بدورها انتقدت الخطوة البريطانية، محذرة من أنها “ستحوّل المملكة المتحدة إلى نموذج مقلق للمراقبة الحكومية”، كما وصفها تحالف “أوبن رايتس”.
انتصار لآبل؟
بالنسبة لآبل، يُعتبر تراجع الحكومة البريطانية عن مطلبها انتصارًا استراتيجيًا. الشركة لطالما أكدت أن التشفير الشامل خط أحمر لا يمكن التلاعب به دون الإضرار بسمعتها ومكانتها في السوق. وكانت خطوة سحب الخدمة من بريطانيا غير مسبوقة، لكنها عكست إصرارها على مواجهة الحكومات التي تطالب بوسائل وصول خاصة.
خبراء التكنولوجيا يرون أن موقف آبل سيمنح دفعة لبقية شركات التكنولوجيا الكبرى مثل “ميتا” و”غوغل”، التي تواجه بدورها ضغوطًا من حكومات مختلفة لتوفير وسائل وصول إلى بيانات المستخدمين، خصوصًا في ملفات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
بريطانيا بين الأمن والخصوصية
التراجع البريطاني يضع حكومة رئيس الوزراء في موقف حرج داخليًا، إذ لطالما دافعت وزارة الداخلية عن إشعارات “الوصول الفني” باعتبارها ضرورية لملاحقة الجرائم الخطيرة ومنع التهديدات الإرهابية. غير أن الانتقادات الدولية، وضغوط واشنطن، ومخاطر تعريض اتفاقية التعاون التكنولوجي مع الولايات المتحدة للفشل، جعلت لندن تفضّل التهدئة.
يقول المحلل الأمني البريطاني مارك تايلور: “الحكومة أدركت أن كلفة المواجهة مع آبل ومع واشنطن أكبر من مكاسبها. لقد خسرت هذه الجولة، لكن من المؤكد أن النقاش حول توازن الأمن والخصوصية سيعود في المستقبل.”
مستقبل العلاقة الرقمية عبر الأطلسي
يبقى السؤال الأبرز الآن: كيف سينعكس هذا التراجع على علاقة لندن بقطاع التكنولوجيا العالمي؟ البعض يرى أن الخطوة ستعزز جاذبية السوق البريطانية للشركات الرقمية الكبرى، بعد أن كادت أن تتحول إلى ساحة اختبار للقيود الحكومية على التشفير.
في المقابل، يشدد آخرون على أن بريطانيا ستواصل البحث عن آليات جديدة تسمح لها بمراقبة التهديدات، وربما بطرق أكثر تعقيدًا وتخفّيًا، بعيدًا عن المواجهة المباشرة مع الشركات الأميركية.
وتراجع بريطانيا عن مطلبها من آبل لا يعني انتهاء المعركة بين الخصوصية والأمن. بل يعكس حجم الضغوط الجيوسياسية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على قرارات الحكومات في ملف حساس مثل حماية بيانات المستخدمين.
الرسالة الأوضح من هذه الأزمة أن الشركات التكنولوجية العملاقة، وعلى رأسها آبل، لم تعد مجرد أطراف اقتصادية، بل لاعبين سياسيين لهم نفوذ يوازي – بل أحيانًا يتفوق – على الحكومات.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29563