دخلت جورجيا مرحلة جديدة من الاضطراب السياسي، بعدما أعلن رئيس الوزراء إيراكلي كوباخيدزه الأحد عن حملة قمع واسعة ضد المعارضة والمحتجين، متهماً الاتحاد الأوروبي بالتدخل في شؤون بلاده الداخلية ودعم “محاولة للإطاحة بالنظام الدستوري”.
وجاءت تصريحات كوباخيدزه عقب أعمال عنف واحتجاجات حاشدة في العاصمة تبليسي وعدة مدن كبرى، اندلعت بعد فوز حزب “الحلم الجورجي” الحاكم فوزاً كاسحاً في الانتخابات المحلية التي أجريت السبت، وسط اتهامات واسعة بالتلاعب وغياب الرقابة المستقلة على صناديق الاقتراع.
قمع واعتقالات واسعة بعد اقتحام القصر الرئاسي
تصاعد التوتر منذ مساء السبت عندما اقتحم متظاهرون مؤيدون للديمقراطية القصر الرئاسي في تبليسي، احتجاجًا على ما وصفوه بـ“سرقة الانتخابات” من قبل الحكومة الشعبوية.
وردّت قوات الأمن باستخدام الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه لتفريق الحشود، في مشهد أعاد للأذهان احتجاجات ربيع 2024 التي قمعتها الحكومة بالعنف أيضًا.
وبحسب وكالة الأنباء الجورجية “إنتربريس”، اعتُقل العشرات من قادة المعارضة والناشطين المدنيين خلال الساعات الأولى من فجر الأحد، بينما شُوهدت تعزيزات أمنية كبيرة حول مقرات الأحزاب المعارضة، في خطوة وصفها مراقبون بأنها “محاولة لإسكات أي صوت معارض قبل أن يمتد الغضب إلى الشارع مجددًا”.
وقال كوباخيدزه في خطاب متلفز حاد اللهجة: “لن يفلت أحد من المسؤولية، بما في ذلك المسؤولية السياسية. لن نسمح بمحاولات تدمير الاستقرار أو الانقلاب على النظام الدستوري.”
وأكد رئيس الوزراء أن الأجهزة الأمنية “ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لضمان الأمن العام” – وهي العبارة التي يرى المعارضون أنها ذريعة لتبرير الاعتقالات التعسفية وقمع الحريات السياسية.
اتهامات مباشرة إلى الاتحاد الأوروبي
في تطور غير مسبوق، اتهم كوباخيدزه مبعوث الاتحاد الأوروبي إلى جورجيا، باول هيرتشينسكي، بالتدخل في السياسة الداخلية ودعم ما وصفه بـ“محاولة انقلاب ناعمة”.
وقال في مؤتمره الصحفي: “على السيد هيرتشينسكي أن يخرج ويدين بشدة أعمال الشغب في تبليسي. إن صمته يعني التواطؤ. الاتحاد الأوروبي يتحمل مسؤولية خاصة في ما يحدث، لأنه دعم طوال السنوات الماضية أحزاباً تعمل على زعزعة نظامنا الدستوري.”
وأضاف أن “بعض السفراء الأجانب يتجاوزون صلاحياتهم الدبلوماسية”، متهماً البعثة الأوروبية بـ“تمويل منظمات غير حكومية تعمل ضد الدولة الجورجية”.
وردًا على هذه التصريحات، قالت المفوضية الأوروبية في بروكسل إنها تتابع التطورات “بقلق بالغ”، مشددة على أن “أي استخدام مفرط للقوة ضد المتظاهرين السلميين أو الاعتقالات الجماعية غير مبرر”.
وأكد متحدث باسم الاتحاد أن “جورجيا، كدولة مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مطالبة باحترام الحريات الأساسية والمعايير الديمقراطية.”
تصاعد الخلاف مع أوروبا وتجمد عملية الانضمام
تأتي هذه الأزمة في سياق توتر متزايد بين تبليسي والاتحاد الأوروبي منذ أن قررت حكومة حزب الحلم الجورجي العام الماضي تعليق محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعد انتخابات 2024 المثيرة للجدل.
واتهمت بروكسل الحكومة الجورجية حينها بـ“تقويض استقلال القضاء وإسكات المعارضة”، بينما ردّت تبليسي بأن الاتحاد الأوروبي “يتدخل في السيادة الوطنية”.
ويرى محللون أن الهجوم الأخير على الدبلوماسيين الأوروبيين قد يقطع ما تبقى من الجسور السياسية بين الجانبين.
وقال الخبير السياسي الجورجي دافيت ناتشكيلاشفيلي إن “السلطة في تبليسي اختارت مواجهة الغرب بدلاً من الإصلاح”، مضيفًا أن “البلاد تتجه نحو عزلة دولية خطيرة”.
إرث من الأزمات والاتهامات
منذ تولي حزب الحلم الجورجي الحكم قبل أكثر من عقد، تشهد جورجيا انقساماً سياسياً متواصلاً.
وقد ازدادت الأزمة عمقًا بعد اتهامات بالتلاعب في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، واستخدام القضاء لقمع المعارضين، والتقارب المريب مع موسكو رغم رغبة غالبية الشعب في التقارب مع أوروبا.
ورغم أن الحزب الحاكم يروّج لنفسه كمدافع عن “القيم الوطنية والاستقرار”، فإن معارضيه يرون أنه يحكم البلاد بعقلية سلطوية متزايدة ويستخدم “الديمقراطية كواجهة لتثبيت السيطرة”.
انزلاق نحو المواجهة
في شوارع تبليسي، لا تزال الاحتجاجات مستمرة رغم الحملة الأمنية، حيث يرفع المتظاهرون شعارات “أوروبا خيارنا” و“لا عودة إلى الماضي”.
وتقول منظمات حقوقية إن السلطات تحتجز أكثر من 200 ناشط، بينما مُنعت وسائل الإعلام المستقلة من تغطية بعض المظاهرات.
ويخشى مراقبون من أن تؤدي هذه الحملة إلى مواجهة مفتوحة بين الحكومة والمعارضة، وربما إلى انقسام حاد داخل المؤسسة العسكرية أو الأمنية نفسها.
ومع تزايد عزلة كوباخيدزه خارجيًا وتصاعد السخط داخليًا، تبدو جورجيا على أعتاب أزمة سياسية شاملة قد تحدد مستقبلها بين طريقين متناقضين: الانفتاح الأوروبي الذي يطالب به الشارع، أو السلطوية الجديدة التي يفرضها الحزب الحاكم
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29699