دخلت العلاقة المتوترة بين إدارة البنك المركزي الأوروبي ونقابته العمالية مرحلة التقاضي، بعدما رفع اتحاد موظفي البنك دعوى أمام محكمة العدل الأوروبية في 13 أكتوبر/تشرين الأول تتهم الإدارة بمحاولات «إسكات» وترهيب ممثلي النقابة، في انتهاكٍ—بحسب النقابة—لمبادئ الحرية النقابية وحرية التعبير التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.
وتعود جذور الخلاف إلى سنوات سبقت القضية الحالية وتفاقمت منذ 2019، تاريخ تولي كريستين لاغارد رئاسة البنك.
ففي خضم مراجعات داخلية لأداء البنك خلال موجة التضخم الأشد منذ نصف قرن، أجرت النقابة (IPSO) استطلاعات داخلية أشارت—وفق نتائجها—إلى انتشار شعور بـ«المحسوبية» و«ثقافة الخوف»، معتبرةً أن ذلك قد يفضي إلى رقابة ذاتية وتفكيرٍ جماعي يُضعف جودة القرار.
وتزايد التوتر في مايو/أيار الماضي بعد مقابلة صحفية لمتحدث النقابة كارلوس بولوْس، حذر فيها من مخاطر بيئة عمل تقيد النقاش المهني.
وأعقبت المقابلة رسائل من الإدارة، وقعتها كبيرة مسؤولي الخدمات ميريام مفكر، تؤكد—بحسب النقابة—أن ممثلي الموظفين لا يحق لهم التطرق علنًا إلى مسائل تتجاوز «نطاق اختصاصهم»، وعلى رأسها أعمال التنبؤ وسياسات البنك. ورأت الإدارة أن تصريحات بولوْس قد تسيء إلى سمعة المؤسسة وتخل بواجب الولاء المنصوص عليه في مدونة السلوك.
ما الذي تقوله كل جهة؟
النقابة: تعتبر أن مخاطبة ممثل نقابي فرديًا بإنذارات وتذكيرات «سرية وشخصية» تُقوض الصوت الجماعي، وتشكل «تدخلًا غير قانوني» في حريات مُصانة أوروبيًا.
وتقول إن رسائل الإدارة—حتى إن وُصفت بأنها غير «قرارات رسمية»—خلقت أثرًا رادعًا: مقابلات أُلغيت خوفًا من الانتقام، ومناخًا يُثني الممثلين عن طرح قضايا مكان العمل.
وتضيف أن الحق في التعبير والانضمام للنقابات ليس «امتيازًا»، بل ركيزة للحوكمة الرشيدة.
الإدارة: تمتنع عن التعليق على القضايا المنظورة، لكنها تؤكد التزامها بحرية التعبير وسيادة القانون، وتشدد على وجود إجراءات صارمة لضمان دقة وموضوعية العمل التحليلي الضروري لولاية البنك.
وترى الإدارة أن الثقة العامة ركنٌ لعمل السياسة النقدية، وأن حرية التعبير لا تُسقط واجب الولاء على الموظفين عند تناول مسائل قد تمس مصداقية المؤسسة.
أثر ورقي أم تقييد فعلي؟
تقول الإدارة إن الرسائل «توضيحية» وليست قرارات تُسجل في ملفات الموظفين، وبالتالي لا تُنشئ أثرًا قانونيًا. غير أن النقابة ترى أن الشكل والمضمون يمنحانها «وقع القرار»، من حيث الختم السري، وطبيعة التوجيهات، وما ترتب بعدها من عدولٌ عن الظهور الإعلامي.
ووفق ما تسرب، رُفض استئناف داخلي قدمه بولوْس لاعتبارات إجرائية (غياب الأثر القانوني الملزم)، ما دفع النقابة إلى المسار القضائي في لوكسمبورغ.
لماذا تكتسب القضية أهمية أوسع؟
حرية التعبير داخل مؤسسات الاتحاد: ستختبر المحكمة الحد الفاصل بين النقد المهني المشروع والسلوك الذي يمكن أن تعتبره مؤسسة أوروبية مُخلًا بالولاء وبالثقة العامة.
وضعٌ وظيفي خاص: البنك المركزي الأوروبي لا يخضع لقوانين العمل الوطنية، بل يضع إطار توظيف خاصًا يقترب من لوائح موظفي الاتحاد. موازنة هذا الاستقلال الإداري مع الحقوق الأساسية ستكون في صلب مرافعات الطرفين.
الحوكمة وثقافة المؤسسة: النقاش يتجاوز الأشخاص إلى سؤال الثقافة المؤسسية في جهة تتخذ قرارات تمس 350 مليون مواطن في منطقة اليورو. هل تُشجع وجهات النظر المخالفة أم تُعاق؟ وما تأثير ذلك على جودة التنبؤ والسياسة النقدية؟
سجل التقاضي واحتمالات المآل
تُظهر البيانات المتاحة أن البنك كسب الغالبية العظمى من نزاعات التوظيف السابقة. لكن اختلاف موضوع هذه القضية—تركيزها على حرية التعبير والتمثيل—قد يفتح الباب لاجتهاد قضائي أدق بشأن حدود المخاطبة الإعلامية لممثلي الموظفين،
وطبيعة «واجب الولاء» في مؤسسات ذات حساسية سوقية عالية. أمام البنك شهران لتقديم مذكرته الدفاعية، فيما تنتظر النقابة قرارًا أوليًا قد يتعلق بمدى قابلية رسائل الإدارة للطعن القضائي من أساسه.
ما الذي قد يترتب عمليًا؟
سيناريو تسوية إجرائية: توضيح إداري رسمي لحدود المخاطبة الإعلامية، وإقرار بروتوكول يضمن حماية ممثلي النقابة عند الإبلاغ عن قضايا مكان العمل، مع قنوات داخلية فعالة للنقاش قبل اللجوء للإعلام.
سيناريو حكم مبدئي: وضع معايير للموازنة بين سمعة المؤسسة وحقوق التعبير، بما في ذلك تعريف أوضح لما يدخل «نطاق اختصاص» ممثلي الموظفين.
سيناريو رفض شكلي: إذا اعتُبرت الرسائل بلا أثر قانوني، قد تشجع الإدارة على مزيد من «التذكيرات غير الملزمة»، ما سيؤجج الجدل حول الحاجة إلى قواعد شفافة تُحصن التمثيل العمالي.
الرابط المختصر https://arabiceuro.net/?p=29721